في أعقاب الحرب والاضطرابات التي أنهكت السودان، تبرز أسواق المال كأداة محورية قد تُعيد الحياة إلى اقتصادٍ يعاني من الدمار. فالتجارب الدولية تُثبت أن البورصات و الأسواق المالية ليست مجرد منصاتٍ للتداول، بل محركاتٌ لإعادة البناء حين تُوظف بوعي، شرط أن تُرافقها إرادة سياسية واستقرار مؤسسي وأهداف استراتيجية .
خلال القرن الماضي، قدمت ألمانيا نموذجًا ملهماً بعد الحرب العالمية الثانية، حيث حوّلت بورصة فرانكفورت إلى قناة لتمويل إعادة إعمار المصانع والبنية التحتية عبر إصدار أسهم وسندات لشركات كبرى مثل فولكس فاجن و سيمنز. أما العراق، ففي خضم التحديات الأمنية عام 2004، تم تأسيس بورصة بغداد التي ساهمت في تمويل قطاعات كالاتصالات، بينما حولت رواندا بورصتها -التي تأسست عام 2005 بعد الإبادة الجماعية- إلى رافعة للاستثمار في الزراعة والبنية التحتية، لتصبح رمزًا للنهضة الإفريقية.
هذه الدروس توفر للسودان خارطة طريق اذا ماتم تهيئة البيئة التشريعية و الفنية، فسوق الخرطوم للأوراق المالية قادر على جذب استثمارات محلية وعالمية تصل إلى مليارات الدولارات، خاصةً مع وجود موارد طبيعية هائلة كالذهب والأراضي الزراعية. لكن الطريق لن يكون سهلاً. فالسودان يحتاج أولاً إلى استعادة الثقة عبر إصلاحات تشريعية تضمن شفافية السوق، ومصالحة سياسية تُرسي الاستقرار. كما أن حجم الأموال عند المغتربين السودانيين في الخارج والذين يبحوث عن فرص ولو بسيطة لإعادة إعمار وطنهم يشير إلى إمكانية استقطاب هذه الأموال عبر مشاريع وطنية مُربحة، كتطوير الموانئ أو مشاريع الري والمواصلات، بدلاً من تركها تُستثمر في اقتصاديات أخرى.
لكن التحديات جسيمة ويمكن بالتخطيط الاستراتيجي السليم أن يتم الالتفاف والتغلب عليها، ومن هذه التحديات ضعف البنية التحتية المالية، وغياب التشريعات الجاذبة للاستثمار. هنا يجب أن تبدأ أولى خطوات الإصلاح بإعادة الاهتمام بسلطة تنظيم أسواق المال للإشراف على الأسواق المالية وتقديم حوافز ادارج للشركات التي تدرج مثل (أولوية في العطاءات الحكومية، تخفيضات جمركية، أولوية في ترشيح الشركات الاستثمارية الأجنبية وغيرها الكثير) ، كما يمكن الدخول في تعاون مع دول الجوار مثل المملكة العربية السعودية ومصر لتصميم مشاريع استثمارية مشتركة، وإطلاق حملات توعوية لجذب المغتربين السودانيين للاستثمار في وطنهم.
الدرس الأهم من التجارب الدولية هو أن البورصة ليست حلًا سحريًا، بل أداة تحتاج إلى بيئة حاضنة. فإذا نجح السودان في تحييد المخاطر السياسية، وبناء مؤسسات مالية قوية، فإن سوق الخرطوم للأوراق المالية قد يصبح جسرًا يعبر به من خراب الحرب إلى آفاق التنمية، حيث تُحوَّل التريليونات المطلوبة لإعادة الإعمار من حلمٍ إلى واقع، عبر استثمارات ذكية تبدأ من الاهتمام باسواق المال، وتنتهي باقتصادٍ يُعيد للسودان مكانته الإقليمية.








































